ركن التفسير
51 - (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم) نتركهم في النار (كما نسوا لقاء يومهم هذا) بتركهم العمل له (وما كانوا بآياتنا يجحدون) أي وكما جحدوا
وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا باتخاذهم الدين لهوا ولعبا واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للآخرة وقوله "فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا" أي يعاملهم معاملة من نسيهم لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه كما قال تعالى "في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة كقوله "نسوا الله فنسيهم" وقال "كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" وقال تعالى "وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا" وقال العوفي عن ابن عباس في قوله "فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا" قال نسيهم الله من الخير ولم ينسهم من الشر وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا وقال مجاهد نتركهم في النار وقال السدي نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول بلى فيقول أظننت أنك ملاقي؟ فيقول لا فيقول الله تعالى فاليوم أنساك كما نسيتني.
﴿فاليَوْمَ نَنْساهم كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذا وما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ﴾ اعْتِراضٌ حُكِيَ بِهِ كَلامٌ يُعْلَنُ بِهِ، مِن جانِبٍ اللَّهِ تَعالى، يَسْمَعُهُ الفَرِيقانِ. وتَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الكَلامِ هو القَرِينَةُ عَلى اخْتِلافِ المُتَكَلِّمِ، وهَذا الألْيَقُ بِما رَجَّحْناهُ مِن جَعْلِ قَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهم لَهْوًا ولَعِبًا﴾ إلى آخِرِهِ حِكايَةً لِكَلامِ أصْحابِ الجَنَّةِ. والفاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلى قَوْلِ أصْحابِ الجَنَّةِ: ﴿إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلى الكافِرِينَ﴾ [الأعراف: ٥٠] ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهم لَهْوًا ولَعِبًا﴾ الآيَةَ. وهَذا العَطْفُ بِالفاءِ مِن قَبِيلِ ما يُسَمّى بِعَطْفِ التَّلْقِينِ المُمَثَّلِ لَهُ غالِبًا بِمَعْطُوفٍ بِالواوِ فَهو عَطْفُ كَلامِ مُتَكَلِّمٍ عَلى كَلامِ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: قالَ اللَّهُ فاليَوْمَ نَنْساهم، فَحَذَفَ فِعْلَ القَوْلِ، وهَذا تَصْدِيقٌ لِأصْحابِ الجَنَّةِ، ومَن جَعَلُوا قَوْلَهُ ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهم لَهْوًا ولَعِبًا﴾ كَلامًا مُسْتَأْنَفًا مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى تَكُونُ الفاءُ عِنْدَهم تَفْرِيعًا في كَلامٍ واحِدٍ. والنِّسْيانُ في المَوْضِعَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ مَجازًا في الإهْمالِ والتَّرْكِ لِأنَّهُ مِن لَوازِمِ النِّسْيانِ، فَإنَّهم لَمْ يَكُونُوا في الدُّنْيا ناسِينَ لِقاءَ يَوْمِ القِيامَةِ. فَقَدْ كانُوا يَذْكُرُونَهُ ويَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ حَدِيثَ مَن لا يُصَدِّقُ بِوُقُوعِهِ. وتَعْلِيقُ الظَّرْفِ بِفِعْلِ: نَنْساهم لِإظْهارِ أنَّ حِرْمانَهم مِنَ الرَّحْمَةِ كانَ مِن أشَدِّ أوْقاتِ احْتِياجِهِمْ إلَيْها، فَكانَ لِذِكْرِ اليَوْمِ أثَرٌ في إثارَةِ تَحَسُّرِهِمْ ونَدامَتِهِمْ، وذَلِكَ عَذابٌ نَفْسانِيٌّ. (p-١٥١)ودَلَّ مَعْنى كافِ التَّشْبِيهِ في قَوْلِهِ ﴿كَما نَسُوا﴾ عَلى أنَّ حِرْمانَهم مِن رَحْمَةِ اللَّهِ كانَ مُماثِلًا لِإهْمالِهِمُ التَّصْدِيقَ بِاللِّقاءِ، وهي مُماثَلَةُ جَزاءِ العَمَلِ لِلْعَمَلِ، وهي مُماثَلَةٌ اعْتِبارِيَّةٌ، فَلِذَلِكَ يُقالُ: إنَّ الكافَ في مِثْلِهِ لِلتَّعْلِيلِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] وإنَّما التَّعْلِيلُ مَعْنًى يَتَوَلَّدُ مِنِ اسْتِعْمالِ الكافِ في التَّشْبِيهِ الِاعْتِبارِيِّ، ولَيْسَ هَذا التَّشْبِيهُ بِمَجازٍ، ولَكِنَّهُ حَقِيقَةٌ خَفِيَّةٌ لِخَفاءِ وجْهِ الشَّبَهِ. وقَوْلُهُ ﴿كَما نَسُوا﴾ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ نَنْساهم أيْ نِسْيانًا كَما نَسُوا. وما في: ﴿كَما نَسُوا﴾ وفي ﴿وما كانُوا﴾ [الأعراف: ١٣٧] مَصْدَرِيَّةٌ أيْ كَنِسْيانِهِمُ اللِّقاءَ وكَجَحْدِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ. ومَعْنى جَحْدِ الآياتِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] في سُورَةِ الأنْعامِ.