موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الأحد 10 ذو القعدة 1445 هجرية الموافق ل19 ماي 2024


الآية [96] من سورة  

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوْا۟ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا۟ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ


ركن التفسير

96 - (ولو أن أهل القرى) المكذبين (آمنوا) بالله ورسلهم (واتقوا) الكفر والمعاصي (لفتحنا) بالتخفيف والتشديد (عليهم بركات من السماء) بالمطر (والأرض) بالنبات (ولكن كذبوا) الرسل (فأخذناهم) عاقبناهم (بما كانوا يكسبون)

يخبر تعالى عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل كقوله تعالى "فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين" أي ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس فإنهم آمنوا وذلك بعد ما عاينوا العذاب كما قال تعالى "وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين" وقال تعالى "ما أرسلنا في قرية من نذير" الآية وقوله تعالى "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا" أي آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل وصدقت به واتبعوه واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات "لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" أي قطر السماء ونبات الأرض قال تعالى "ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون" أي ولكن كذبوا رسلهم فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم.

﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ ولَكِنْ كَذَّبُوا فَأخَذْناهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ﴿أفَأمِنَ أهْلُ القُرى أنْ يَأْتِيَهم بَأْسُنا بَياتًا وهم نائِمُونَ﴾ ﴿أوَ أمِنَ أهْلُ القُرى أنْ يَأْتِيَهم بَأْسُنا ضُحًى وهم يَلْعَبُونَ﴾ ﴿أفَأمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الخاسِرُونَ﴾ عُطِفَتْ جُمْلَةُ (﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى﴾) عَلى جُمْلَةِ (﴿وما أرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِن نَبِيءٍ إلّا أخَذْنا أهْلَها بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ﴾ [الأعراف: ٩٤]) أيْ: ما أرْسَلْنا في قَرْيَةٍ نَبِيئًا فَكَذَّبَهُ أهْلُها إلّا نَبَّهْناهم واسْتَدْرَجْناهم ثُمَّ عاقَبْناهم ولَوْ أنَّ أهْلَ تِلْكَ القُرى المُهْلَكَةِ آمَنُوا بِما جاءَهم بِهِ رَسُولُهم واتَّقَوْا رَبَّهم لَما أصَبْناهم بِالبَأْساءِ ولَأحْيَيْناهم حَياةَ البَرَكَةِ، أيْ: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ولَكِنَّهم ظَلَمُوا أنْفُسَهم. وشَرْطُ لَوِ الِامْتِناعِيَّةِ يَحْصُلُ في الزَّمَنِ الماضِي، ولَمّا جاءَتْ جُمْلَةُ شَرْطِها (p-٢١)مُقْتَرِنَةً بِحَرْفِ أنَّ المُفِيدِ لِلتَّأْكِيدِ والمَصْدَرِيَّةِ، وكانَ خَبَرُ أنَّ فِعْلًا ماضِيًا تَوَفَّرَ مَعْنى المُضِيِّ في جُمْلَةِ الشَّرْطِ. والمَعْنى: لَوْ حَصَلَ إيمانُهم فِيما مَضى لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ. والتَّقْوى: هي تَقْوى اللَّهِ بِالوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ وذَلِكَ بَعْدَ الإيمانِ. والتَّعْرِيفُ في القُرى تَعْرِيفُ العَهْدِ، فَإضافَةُ (أهْلَ) إلَيْهِ تُفِيدُ عُمُومَهُ بِقَدْرِ ما أُضِيفَ هو إلَيْهِ، وهَذا تَصْرِيحٌ بِما أفْهَمَهُ الإيجازُ في قَوْلِهِ (﴿وما أرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِن نَبِيءٍ إلّا أخَذْنا أهْلَها بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ﴾ [الأعراف: ٩٤]) الآيَةَ كَما تَقَدَّمَ، وتَعْرِيضٌ بِإنْذارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا ﷺ مِن أهْلِ مَكَّةَ، وتَعْرِيضٌ بِبِشارَةِ أهْلِ القُرى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ كَأهْلِ المَدِينَةِ، وقَدْ مَضى في صَدْرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ ما يُقَرِّبُ أنَّها مِن آخِرِ ما نَزَلَ بِمَكَّةَ، وقِيلَ إنَّ آياتٍ مِنها نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ كَما تَقَدَّمَ، وبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ التَّعْرِيضِ بِالنِّذارَةِ والبِشارَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِن أهْلِ القُرى. وقَدْ أخَذَ اللَّهُ أهْلَ مَكَّةَ بَعْدَ خُرُوجِ المُؤْمِنِينَ مِنها فَأصابَهم بِسَبْعِ سِنِينَ مِنَ القَحْطِ، وبارَكَ لِأهْلِ المَدِينَةِ وأغْناهم وصَرَفَ عَنْهُمُ الحُمّى إلى الجُحْفَةِ، والجُحْفَةُ يَوْمَئِذٍ بِلادُ شِرْكٍ. والفَتْحُ: إزالَةُ حَجْزِ شَيْءٍ حاجِزٍ عَنِ الدُّخُولِ إلى مَكانٍ، يُقالُ: فَتَحَ البابَ وفَتَحَ البَيْتَ، وتَعْدِيَتُهُ إلى البَيْتِ عَلى طَرِيقَةِ التَّوَسُّعِ، وأصْلُهُ فَتْحٌ لِلْبَيْتِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنا ﴿لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ﴾ وقَوْلُهُ ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها﴾ [فاطر: ٢]، ويُقالُ فَتَحَ كُوَّةً، أيْ: جَعَلَها فَتْحَةً، والفَتْحُ هُنا اسْتِعارَةٌ لِلتَّمْكِينِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمُ أبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤] في سُورَةِ الأنْعامِ. وتَعْدِيَةُ فِعْلِ الفَتْحِ إلى البَرَكاتِ هُنا اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ البَرَكاتِ بِالبُيُوتِ في الِانْتِفاعِ بِما تَحْتَوِيهِ، فَهُنا اسْتِعارَتانِ مَكْنِيَّةٌ وتَبَعِيَّةٌ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: لَفَتَّحْنا بِتَشْدِيدِ التّاءِ وهو يُفِيدُ المُبالِغَةَ. والبَرَكاتُ: جَمْعُ بَرَكَةٍ، والمَقْصُودُ مِنَ الجَمْعِ تَعَدُّدُها، بِاعْتِبارِ تَعَدُّدِ أصْنافِ الأشْياءِ المُبارَكَةِ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ البَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ﴾ [الأنعام: ٩٢] في سُورَةِ الأنْعامِ. وتَقَدَّمَ أيْضًا في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا﴾ [آل عمران: ٩٦] (p-٢٢)فِي سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وتَقَدَّمَ أيْضًا في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٥٤] في هَذِهِ السُّورَةِ. وجِماعُ مَعْناها هو الخَيْرُ الصّالِحُ الَّذِي لا تَبِعَةَ عَلَيْهِ في الآخِرَةِ. فَهو أحْسَنُ أحْوالِ النِّعْمَةِ. ولِذَلِكَ عَبَّرَ في جانِبِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمُ المُسْتَدْرَجِينَ بِلَفْظِ الحَسَنَةِ بِصِيغَةِ الإفْرادِ في قَوْلِهِ (﴿مَكانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ﴾ [الأعراف: ٩٥]) وفي جانِبِ المُؤْمِنِينَ بِالبَرَكاتِ مَجْمُوعَةً. وقَوْلُهُ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ مُرادٌ بِهِ حَقِيقَتُهُ. لِأنَّ ما يَنالُهُ النّاسُ مِنَ الخَيْراتِ الدُّنْيَوِيَّةِ لا يَعْدُو أنْ يَكُونَ ناشِئًا مِنَ الأرْضِ، وذَلِكَ مُعْظَمُ المَنافِعِ. أوْ مِنَ السَّماءِ، مِثْلَ ماءِ المَطَرِ وشُعاعِ الشَّمْسِ وضَوْءِ القَمَرِ والنُّجُومِ والهَواءِ والرِّياحِ الصّالِحَةِ. وقَوْلُهُ ولَكِنْ كَذَّبُوا اسْتِثْناءٌ لِنَقِيضِ شَرْطِ لَوْ، فَإنَّ التَّكْذِيبَ هو عَدَمُ الإيمانِ فَهو قِياسٌ اسْتِثْنائِيٌّ. وجُمْلَةُ فَأخَذْناهم مُتَسَبِّبَةٌ عَلى جُمْلَةِ ولَكِنْ كَذَّبُوا وهو مِثْلُ نَتِيجَةِ القِياسِ. لِأنَّهُ مُساوِي نَقِيضِ التّالِي؛ لِأنَّ أخْذَهم بِما كَسَبُوا فِيهِ عَدَمُ فَتْحِ البَرَكاتِ عَلَيْهِمْ. وتَقَدَّمَ مَعْنى الأخْذِ آنِفًا في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَأخَذْناهم بَغْتَةً﴾ [الأعراف: ٩٥] . والمُرادُ بِهِ أخْذُ الِاسْتِئْصالِ. والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أيْ بِسَبَبِ ما كَسَبُوهُ مِنَ الكُفْرِ والعِصْيانِ. والفاءُ في قَوْلِهِ أفَأمِنَ أهْلُ القُرى عاطِفَةٌ أفادَتِ التَّرَتُّبَ الذِّكْرِيَّ. فَإنَّهُ لَمّا ذَكَرَ مِن أحْوالِ جَمِيعِهِمْ ما هو مَثارُ التَّعْجِيبِ مِن حالِهِمْ أعْقَبَهُ بِما يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْطُوفًا بِفاءِ التَّرَتُّبِ. ومَحَلُّ التَّعْجِيبِ هو تَواطُؤُهم عَلى هَذا الغُرُورِ، أيْ يَتَرَتَّبُ عَلى حِكايَةِ تَكْذِيبِهِمْ وأخْذِهِمُ اسْتِفْهامُ التَّعْجِيبِ مِن غُرُورِهِمْ وأمْنِهِمْ غَضَبَ القادِرِ العَلِيمِ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ﴾ [البقرة: ٨٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وجِيءَ بِقَوْلِهِ يَأْتِيهِمْ بِصِيغَةِ المُضارِعِ لِأنَّ المُرادَ حِكايَةُ أمْنِهِمُ الَّذِي مَضى مِن إتْيانِ بَأْسِ اللَّهِ في مُسْتَقْبَلِ ذَلِكَ الوَقْتِ. (p-٢٣)وقَوْلُهُ ﴿أوَأمِنَ أهْلُ القُرى أنْ يَأْتِيَهم بَأْسُنا ضُحًى وهم يَلْعَبُونَ﴾ قَرَأهُ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ. وابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ بِسِكُونِ الواوِ عَلى أنَّهُ عَطْفٌ بِحَرْفِ ”أوْ“ الَّذِي هو لِأحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَطْفًا عَلى التَّعْجِيبِ، أيْ: هو تَعْجِيبٌ مِن أحَدِ الحالَيْنِ. وقَرَأهُ الباقُونَ بِفَتْحِ الواوِ عَلى أنَّهُ عَطْفٌ بِالواوِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ، فَهو عَطْفُ اسْتِفْهامٍ ثانٍ بِالواوِ المُفِيدَةِ لِلْجَمْعِ، فَيَكُونُ كِلا الِاسْتِفْهامَيْنِ مَدْخُولًا لِفاءِ التَّعْقِيبِ، عَلى قَوْلِ جُمْهُورِ النُّحاةِ. وأمّا عَلى رَأْيِ الزَّمَخْشَرِيِّ فَيَتَعَيَّنُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلتَّقْسِيمِ، أيْ تَقْسِيمِ الِاسْتِفْهامِ إلى اسْتِفْهامَيْنِ. وتَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّأْيَيْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ﴾ [البقرة: ٨٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ. (وبَياتًا) تَقَدَّمَ مَعْناهُ ووَجْهُ نَصْبِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿وكَمْ مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا﴾ [الأعراف: ٤] في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. والضُّحى بِالضَّمِّ مَعَ القَصْرِ هو في الأصْلِ اسْمٌ لِضَوْءِ الشَّمْسِ إذا أشْرَقَ وارْتَفَعَ، وفَسَّرَهُ الفُقَهاءُ بِأنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ، ويُرادِفُهُ الضَّحْوَةُ والضَّحْوُ. والضُّحى يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وشاعَ التَّوْقِيتُ بِهِ عِنْدَ العَرَبِ ومَن قَبْلَهم، قالَ - تَعالى - حِكايَةً عَنْ مُوسى قالَ ﴿مَوْعِدُكم يَوْمُ الزِّينَةِ وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى﴾ [طه: ٥٩] . وتَقْيِيدُ التَّعْجِيبِ مِن أمْنِهِمْ مَجِيءَ البَأْسِ، بِوَقْتِيِ البَياتِ والضُّحى، مِن بَيْنِ سائِرِ الأوْقاتِ، وبِحالَيِ النَّوْمِ واللَّعِبِ، مِن بَيْنِ سائِرِ الأحْوالِ؛ لِأنَّ الوَقْتَيْنِ أجْدَرُ بِأنْ يُحْذَرَ حُلُولُ العَذابِ فِيهِما، لِأنَّهُما وقْتانِ لِلدَّعَةِ، فالبَياتُ لِلنَّوْمِ بَعْدَ الفَراغِ مِنَ الشُّغْلِ. والضُّحى لِلَّعِبِ قَبْلَ اسْتِقْبالِ الشُّغْلِ، فَكانَ شَأْنُ أُولِي النُّهى المُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَةِ رُسُلِ اللَّهِ أنْ لا يَأْمَنُوا عَذابَهُ، بِخاصَّةٍ في هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ والحالَيْنِ. وفِي هَذا التَّعْجِيبِ تَعْرِيضٌ بِالمُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ لِلنَّبِيءِ ﷺ أنْ يَحُلَّ بِهِمْ ما حَلَّ بِالأُمَمِ الماضِيَةِ، فَكانَ ذِكْرُ وقْتِ البَياتِ، ووَقْتِ اللَّعِبِ، أشَدَّ مُناسَبَةً بِالمَعْنى التَّعْرِيضِيِّ، تَهْدِيدًا لَهم بِأنْ يُصِيبَهُمُ العَذابُ بِأفْظَعِ أحْوالِهِ، إذْ يَكُونُ حُلُولُهُ بِهِمْ في ساعَةِ دَعَتِهِمْ وساعَةِ لَهْوِهِمْ نِكايَةً بِهِمْ. وقَوْلُهُ ﴿أفَأمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ﴾ تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ أفَأمِنَ أهْلُ القُرى قُصِدَ مِنهُ تَقْرِيرُ التَّعْجِيبِ مِن غَفْلَتِهِمْ، وتَقْرِيرُ مَعْنى التَّعْرِيضِ بِالسّامِعِينَ مِنَ المُشْرِكِينَ. مَعَ زِيادَةِ (p-٢٤)التَّذْكِيرِ بِأنَّ ما حَلَّ بِأُولَئِكَ مِن عَذابِ اللَّهِ يُماثِلُ هَيْئَةَ مَكْرِ الماكِرِ بِالمَمْكُورِ فَلا يَحْسَبُوا الإمْهالَ إعْراضًا عَنْهم، ولْيَحْذَرُوا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَفِعْلِ الماكِرِ بِعَدُوِّهِ. والمَكْرُ حَقِيقَتُهً: فِعْلٌ يُقْصَدُ بِهِ ضُرُّ أحَدٍ في هَيْئَةٍ تَخْفى أوْ هَيْئَةٍ يَحْسَبُها مَنفَعَةً. وهو هُنا اسْتِعارَةٌ لِلْإمْهالِ والإنْعامِ في حالِ الإمْهالِ، فَهي تَمْثِيلِيَّةٌ، شَبَّهَ حالَ الأنْعامِ مَعَ الإمْهالِ، وتَعْقِيبَهُ بِالِانْتِقامِ بِحالِ المَكْرِ، وتَقَدَّمَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾ [آل عمران: ٥٤] . وقَوْلُهُ ﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الخاسِرُونَ﴾ مُتَرَتِّبٌ ومُتَفَرِّعٌ عَنِ التَّعْجِيبِ في قَوْلِهِ أفَأمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنهُ تَفْرِيعُ أنَّ أهْلَ القُرى المَذْكُورِينَ خاسِرُونَ لِثُبُوتِ أنَّهم أمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، والتَّقْدِيرُ: أفَأمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَهم قَوْمٌ خاسِرُونَ. وإنَّما صِيغَ هَذا التَّفْرِيعُ بِصِيغَةٍ تَعُمُّ المُخْبَرَ عَنْهم وغَيْرَهم لِيَجْرِيَ مَجْرى المَثَلِ ويَصِيرَ تَذْيِيلًا لِلْكَلامِ، ويَدْخُلَ فِيهِ المُعَرَّضَ بِهِمْ في هَذِهِ المَوْعِظَةِ وهُمُ المُشْرِكُونَ الحاضِرُونَ، والتَّقْدِيرُ: فَهم قَوْمٌ خاسِرُونَ، إذْ لا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الخاسِرُونَ. والخُسْرانُ - هُنا - هو إضاعَةُ ما فِيهِ نَفْعُهم بِسُوءِ اعْتِقادِهِمْ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِالخُسْرانِ وهو إضاعَةُ التّاجِرِ رَأْسَ مالِهِ بِسُوءِ تَصَرُّفِهِ، لِأنَّهم بِاطْمِئْنانِهِمْ إلى السَّلامَةِ الحاضِرَةِ، وإعْراضِهِمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِيما يَعْقُبُها مِنَ الأخْذِ الشَّبِيهِ بِفِعْلِ الماكِرِ قَدْ خَسِرُوا الِانْتِفاعَ بِعُقُولِهِمْ وخَسِرُوا أنْفُسَهم. وتَقَدَّمَ قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٢] في سُورَةِ الأنْعامِ، وقَوْلُهُ ﴿فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ [الأعراف: ٩] في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وتَقَدَّمَ أنَّ إطْلاقَ المَكْرِ عَلى أخْذِ اللَّهِ مُسْتَحِقِّي العِقابِ بَعْدَ إمْهالِهِمْ: أنَّ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾ [آل عمران: ٥٤] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. واعْلَمْ أنَّ المُرادَ بِأمْنِ مَكْرِ اللَّهِ في هَذِهِ الآيَةِ هو الأمْنُ الَّذِي مِن نَوْعِ أمْنِ أهْلِ القُرى المُكَذِّبِينَ، الَّذِي ابْتُدِئَ الحَدِيثُ عَنْهُ مِن قَوْلِهِ (﴿وما أرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِن نَبِيءٍ إلّا أخَذْنا أهْلَها بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ لَعَلَّهم يَضَّرَّعُونَ﴾ [الأعراف: ٩٤]) ثُمَّ قَوْلِهِ ﴿أفَأمِنَ أهْلُ القُرى أنْ يَأْتِيَهم بَأْسُنا بَياتًا﴾ الآياتِ، وهو الأمْنُ النّاشِئُ عَنْ تَكْذِيبِ خَبَرِ الرَّسُولِ ﷺ، وعَنِ الغُرُورِ بِأنَّ دِينَ الشِّرْكِ هو الحَقُّ فَهو أمْنٌ (p-٢٥)ناشِئٌ عَنْ كُفْرٍ. والمَأْمُونُ مِنهُ هو وعِيدُ الرُّسُلِ إيّاهم وما أُطْلِقَ عَلَيْهِ أنَّهُ مَكْرُ اللَّهِ. ومِنَ الأمْنِ مِن عَذابِ اللَّهِ أصْنافٌ أُخْرى تُغايِرُ هَذا الأمْنَ، وتَتَقارَبُ مِنهُ، وتَتَباعَدُ، بِحَسَبِ اخْتِلافِ ضَمائِرِ النّاسِ ومَبالِغِ نِيّاتِهِمْ، فَأمّا ما كانَ مِنها مُسْتَنِدًا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلا تَبِعَةَ عَلى صاحِبِهِ، وذَلِكَ مِثْلُ أمْنِ المُسْلِمِينَ مِن أمْثالِ عَذابِ الأُمَمِ الماضِيَةِ المُسْتَنِدِ إلى قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٣]، وإلى قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿قُلْ هو القادِرُ عَلى أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكم عَذابًا مِن فَوْقِكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٥] فَقالَ النَّبِيءُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: «أعُوذُ بِسُبُحاتِ وجْهِكِ الكَرِيمِ» أوْ مِن تَحْتِ أرْجُلِكم فَقالَ: «أعُوذُ بِسُبُحاتِ وجْهِكِ الكَرِيمِ» أوْ يَلْبِسَكم شِيَعًا الآيَةَ، فَقالَ: هَذِهِ أهْوَنُ كَما تَقَدَّمَ في تَفْسِيرِها في سُورَةِ الأنْعامِ ومِثْلُ أمْنِ أهْلِ بَدْرٍ مِن عَذابِ الآخِرَةِ لِقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ: «ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلى أهْلِ بَدْرٍفَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكم» في قِصَّةِ حاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ. ومِثْلُ إخْبارِ النَّبِيءِ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ أنَّهُ لا يَزالُ آخِذًا بِالعُرْوَةِ الوُثْقى، ومِثْلُ الأنْبِياءِ فَإنَّهم آمِنُونَ مِن مَكْرِ اللَّهِ بِإخْبارِ اللَّهِ إيّاهم بِذَلِكَ، وأوْلِياءُ اللَّهِ كَذَلِكَ، قالَ - تَعالى -: ﴿ألا إنَّ أوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: ٦٢] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: ٦٣] فَمِنَ العَجِيبِ ما ذَكَرَهُ الخَفاجِيُّ أنَّ الحَنَفِيَّةَ، قالُوا: الأمْنُ مِن مَكْرِ اللَّهِ كُفْرٌ لِقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الخاسِرُونَ﴾ . والأمْنُ مُجْمَلٌ ومَكْرُ اللَّهِ تَمْثِيلٌ والخُسْرانُ مُشَكَّكُ الحَقِيقَةِ، وقالَ الخَفاجِيُّ: الأمْنُ مِن مَكْرِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ، وهو الِاسْتِرْسالُ عَلى المَعاصِي اتِّكالًا عَلى عَفْوِ اللَّهِ وذَلِكَ مِمّا نَسَبَهُ الزَّرْكَشِيُّ في شَرْحِ جَمْعِ الجَوامِعِ إلى ولِيِّ الدِّينِ، ورَوى البَزّارُ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ سُئِلَ: ما الكَبائِرُ، فَقالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ واليَأْسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ والأمْنُ مِن مَكْرِ اللَّهِ» . ولَمْ أقِفْ عَلى مَبْلَغِ هَذا الحَدِيثِ مِنَ الصِّحَّةِ، وقَدْ ذَكَرْنا غَيْرَ مَرَّةٍ أنَّ ما يَأْتِي في القُرْآنِ مِنَ الوَعِيدِ لِأهْلِ الكُفْرِ عَلى أعْمالٍ لَهم مُرادٌ مِنهُ أيْضًا تَحْذِيرُ المُسْلِمِينَ مِمّا يُشْبِهُ تِلْكَ الأعْمالَ بِقَدْرِ اقْتِرابِ شَبَهِهِ.


ركن الترجمة

But if the people of these regions had believed and feared God, We would surely have showered on them blessings of the heavens and the earth; but they only denied, and We punished them for their deeds.

Si les habitants des cités avaient cru et avaient été pieux, Nous leur aurions certainement accordé des bénédictions du ciel et de la terre. Mais ils ont démenti et Nous les avons donc saisis, pour ce qu'ils avaient acquis.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :