موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الاثنين 19 شوال 1445 هجرية الموافق ل29 أبريل 2024


الآية [42] من سورة  

إِذْ أَنتُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَٱخْتَلَفْتُمْ فِى ٱلْمِيعَٰدِ وَلَٰكِن لِّيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَنۢ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ


ركن التفسير

42 - (إذ) بدل من يوم (أنتم) كائنون (بالعُدوة الدنيا) القربى من المدينة وهي بضم العين وكسرها جانب الوادي (وهم بالعدوة القصوى) البعدى منها (والركب) العير كائنون بمكان (أسفل منكم) مما يلي البحر (ولو تواعدتم) أنتم والنفير للقتال (لاختلفتم في الميعاد ولكن) جمعكم بغير ميعاد (ليقضي الله أمراً كان مفعولا) في علمه وهو نصر الإسلام ومحق الكفر فعل ذلك. (ليهلك) يكفر (من هلك عن بينة) أي بعد حجة ظاهرة قامت عليه وهي نصر المؤمنين مع قلتهم على الجيش الكثير (ويحيى) يؤمن (من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم)

يقول تعالى مخبرا عن يوم الفرقان "إذ أنتم بالعدوة الدنيا" أي إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة "وهم" أي المشركون نزول "بالعدوة القصوى" أي البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة" والركب أي العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة "أسفل منكم" أي مما يلي سيف البحر "ولو تواعدتم أي أنتم والمشركون إلى مكان لاختلفتم في الميعاد" قال محمد بن إسحق وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه في هذه الآية قال ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم "ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا" أي ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله من غير ملأ منكم ففعل ما أراد من ذلك بلطفه وفي حديث كعب بن مالك قال إنما خـرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثني بن علية عن ابن عون عن عمير بن إسحق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فالتقوا ببدر ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء حتى التقى السقاة ونهد الناس بعضهم لبعض وقال محمد بن إسحق في السيرة: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه ذلك حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهنين يلتمسان الخبر عن أبي سفيان فانطلقا حتى إذا وردا بدرا فأناخا بعيريهما إلى تل من البطحاء فاستقيا في شن لهما من الماء فسمعا جاريتين يختصمان تقول إحداهما لصاحبتها اقضيني حقي وتقول الأخرى إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأقضيك حقك فخلص بينهما مجدي بن عمرو وقال صدقت فسمع بذلك بسبس وعدي فجلسا على بعيريهما حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه الخبر وأقبل أبو سفيان حين وليا وقد حذر فتقدم أمام عيره وقال لمجدي بن عمرو هل أحسست على هذا الماء من أحد تنكره؟ فقال لا والله إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل فاستقيا من شن لهما ثم انطلقا فجاء أبو سفيان إلى مناخ بعيريهما فأخذ من أبعارهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب ثم رجع سريعا فضرب وجه عيره فانطلق بها فساحل حتى إذا رأى أنه قد أحرز عيره إلى قريش فقال: إن الله قد نجى عيركم وأموالكم ورجالكم فارجعوا فقال أبو جهل والله لا نرجع حتى نأتي بدرا. وكانت بدر سوقا من أسواق العرب. فنقيم بها ثلاثا فنطعم بها الطعام وننحر بها الجزر ونسقي بها الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا. فقال الأخنس بن شريق: يا معشر بني زهرة إن الله قد أنجى أموالكم ونجى صاحبكم فارجعوا فرجعت بنو زهرة فلم يشهدوها ولا بنو عدي. قال محمد بن إسحق وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دنا من بدر علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام في نفر من أصحابه يتجسسون له الخبر فأصابوا سقاة لقريش غلاما لبني سعيد بن العاص وغلاما لبني الحجاج فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدوه يصلي فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونهما لمن أنتما؟ فيقولان نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلما أزلقوهما قالا نحن لأبي سفيان فتركوهما وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتين ثم سلم وقال "إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش "قالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى والكثيب العقنقل فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم "كم القوم؟" قالا كثير قال "ما عدتهم؟ " قالا ما ندري قال "كم ينحرون كل يوم؟ " قالا يوما تسعا ويوما عشرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القوم ما بين التسعمائة إلى الألف" ثم قال لهما "فمن فيهم من أشراف قريش؟ " قالا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود فأقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الناس فقال "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" قال محمد بن إسحق رحمه الله تعالى وحدثني عبدالله بن أبي بكر بن حزم أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما التقى الناس يوم بدر يا رسول الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه وننيخ إليك ركائبك ونلقى عدونا فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحن وإن تكن الأخـرى فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا فقد والله تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حبا منهم لو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ويؤازرونك وينصرونك. فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له به فبنى له عريش فكان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ما معهما غيرهما. قال ابن إسحق وارتحلت قريش حين أصبحت فلما أقبلت ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي فقال "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم أحنهم الغداة" - وقوله "ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة" قال محمد بن إسحق أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة ويؤمن من آمن على مثل ذلك وهذا تفسير جيد. وبسط ذلك أنه تعالى يقول إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد لينصركم عليهم ويرفع كلمة الحق على الباطل ليصير الأمر ظاهرا والحجة قاطعة والبراهين ساطعة ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة فحينئذ يهلك من هلك أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره إنه مبطل لقيام الحجة عليه "ويحيى من حي" أي يؤمن من آمن "عن بينة" أي حجة وبصيرة والإيمان هو حياة القلوب قال الله تعالى "أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس" وقالت عائشة في قصة الأفك فهلك في من هلك أي قال فيها ما قال من البهتان والإفك وقوله "وإن الله لسميع" أي لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به "عليم" أي بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين.

﴿إذْ أنْتُمْ بِالعُدْوَةِ الدُّنْيا وهم بِالعُدْوَةِ القُصْوى والرَّكْبُ أسْفَلَ مِنكم ولَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ في المِيعادِ ولَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أمْرًا كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيا مَن حَيِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ وإنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ”إذْ“ بَدَلٌ مِن ﴿يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ﴾ [الأنفال: ٤١] فَهو ظَرْفٌ لِـ ”أنْزَلْنا“ أيْ زَمَنَ أنْتُمْ بِالعُدْوَةِ الدُّنْيا، وقَدْ أُرِيدَ مِن هَذا الظَّرْفِ وما أُضِيفَ إلَيْهِ تَذْكِيرُهم بِحالَةٍ حَرِجَةٍ كانَ المُسْلِمُونَ (p-١٦)فِيها، وتَنْبِيهُهم لِلُطْفٍ عَظِيمٍ حَفَّهم مِنَ اللَّهِ - تَعالى - وهي حالَةُ مَوْقِعِ جَيْشِ المُسْلِمِينَ مِن جَيْشِ المُشْرِكِينَ، وكَيْفَ التَقى الجَيْشانِ في مَكانٍ واحِدٍ عَنْ غَيْرِ مِيعادٍ، ووَجَدَ المُسْلِمُونَ أنْفُسَهم أمامَ عَدُوٍّ قَوِيِّ العِدَّةِ والعُدَّةِ والمَكانَةِ مِن حُسْنِ المَوْقِعِ. ولَوْلا هَذا المَقْصِدُ مِن وصْفِ هَذِهِ الهَيْئَةِ لَما كانَ مِن داعٍ لِهَذا الإطْنابِ إذْ لَيْسَ مِن أغْراضِ القُرْآنِ وصْفُ المَنازِلِ إذا لَمْ تَكُنْ فِيهِ عِبْرَةٌ. والعُدْوَةُ بِتَثْلِيثِ العَيْنِ ضَفَّةُ الوادِي وشاطِئُهُ، والضَّمُّ والكَسْرُ في العَيْنِ أفْصَحُ وعَلَيْهِما القِراءاتُ المَشْهُورَةُ، فَقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِضَمِّ العَيْنِ، وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ بِكَسْرِ العَيْنِ. والمُرادُ بِها شاطِئُ وادِي بَدْرٍ. وبَدْرٌ اسْمُ ماءٍ. و”الدُّنْيا“ هي القَرِيبَةُ أيِ العُدْوَةُ الَّتِي مِن جِهَةِ المَدِينَةِ فَهي أقْرَبُ لِجَيْشِ المُسْلِمِينَ مِنَ العُدْوَةِ الَّتِي مِن جِهَةِ مَكَّةَ. والعُدْوَةُ القُصْوى هي الَّتِي مِمّا يَلِي مَكَّةَ وهي كَثِيبٌ وهي قُصْوى بِالنِّسْبَةِ لِمَوْقِعِ بَلَدِ المُسْلِمِينَ. والوَصْفُ بِالدُّنْيا والقُصْوى يَشْعُرُ المُخاطَبُونَ بِفائِدَتِهِ وهي أنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا حَرِيصِينَ أنْ يَسْبِقُوا المُشْرِكِينَ إلى العُدْوَةِ القُصْوى لِأنَّها أصْلَبُ أرْضًا فَلَيْسَ لِلْوَصْفِ بِالدُّنُوِّ والقُصُوِّ أثَرٌ في تَفْضِيلِ إحْدى العُدْوَتَيْنِ عَلى الأُخْرى ولَكِنَّهُ صادَفَ أنْ كانَتِ القُصْوى أسْعَدَ بِنُزُولِ الجَيْشِ، فَلَمّا سَبَقَ جَيْشُ المُشْرِكِينَ إلَيْها اغْتَمَّ المُسْلِمُونَ فَلَمّا نَزَلَ المُسْلِمُونَ بِالعُدْوَةِ الدُّنْيا أرْسَلَ اللَّهُ المَطَرَ وكانَ الوادِي دَهْسًا فَلَبَّدَ المَطَرُ الأرْضَ ولَمْ يَعُقْهم عَنِ المَسِيرِ وأصابَ الأرْضَ الَّتِي بِها قُرَيْشٌ فَعَطَّلَهم عَنِ الرَّحِيلِ فَلَمْ يَبْلُغُوا بَدْرًا إلّا بَعْدَ أنْ وصَلَ المُسْلِمُونَ وتَخَيَّرُوا أحْسَنَ مَوْقِعٍ وسَبَقُوا إلى الماءِ فاتَّخَذُوا حَوْضًا يَكْفِيهِمْ وغَوَّرُوا الماءَ فَلَمّا وصَلَ المُشْرِكُونَ إلى الماءِ وجَدُوهُ قَدِ احْتازَهُ المُسْلِمُونَ فَكانَ المُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَ ولا يَجِدُ المُشْرِكُونَ ماءً. وضَمِيرُ ”وهم“ عائِدٌ إلى ما في لَفْظِ ”الجَمْعانِ“ مِن مَعْنى: جَمْعُكم وجَمْعُ المُشْرِكِينَ، فَلَمّا قالَ ﴿إذْ أنْتُمْ بِالعُدْوَةِ الدُّنْيا﴾ لَمْ يَبْقَ مَعادٌ لِضَمِيرِ ”وهم“ إلّا الجَمْعُ الآخَرُ وهو جَمْعُ المُشْرِكِينَ. والرَّكْبُ هو رَكْبُ قُرَيْشٍ الرّاجِعُونَ مِنَ الشّامِ، وهو العِيرُ، أسْفَلَ مِنَ الفَرِيقَيْنِ أيْ أخْفَضَ مِن مَنازِلِهِما؛ لِأنَّ العِيرَ كانُوا سائِرِينَ في طَرِيقِ السّاحِلِ وقَدْ (p-١٧)تَرَكُوا ماءَ بَدْرٍ عَنْ يَسارِهِمْ. ذَلِكَ أنَّ أبا سُفْيانَ لَمّا بَلَغَهُ أنَّ المُسْلِمِينَ خَرَجُوا لِتَلَقِّي عِيرِهِ رَجَعَ بِالعِيرِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي تَمُرُّ بِبَدْرٍ، وسَلَكَ طَرِيقَ السّاحِلِ لِيَنْجُوَ بِالعِيرِ، فَكانَ مَسِيرُهُ في السُّهُولِ المُنْخَفِضَةِ، وكانَ رِجالُ الرَّكْبِ أرْبَعِينَ رَجُلًا. والمَعْنى: والرَّكْبُ بِالجِهَةِ السُّفْلى مِنكم، وهي جِهَةُ البَحْرِ. وضَمِيرُ ”مِنكم“ خِطابٌ لِلْمُسْلِمِينَ المُخاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿إذْ أنْتُمْ بِالعُدْوَةِ الدُّنْيا﴾ والمَعْنى أنَّ جَيْشَ المُسْلِمِينَ كانَ بَيْنَ جَماعَتَيْنِ لِلْمُشْرِكِينَ وهُما جَيْشُ أبِي جَهْلٍ بِالعُدْوَةِ القُصْوى وعِيرُ القَوْمِ أسْفَلَ مِنَ العُدْوَةِ الدُّنْيا فَلَوْ عَلِمَ العَدُوُّ بِهَذا الوَضْعِ لَطَبَقَ جَماعَتَيْهِ عَلى جَيْشِ المُسْلِمِينَ ولَكِنَّ اللَّهَ صَرَفَهم عَنِ التَّفَطُّنِ لِذَلِكَ وصَرَفَ المُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ وقَدْ كانُوا يَطْمَعُونَ أنْ يُصادِفُوا العِيرَ فَيَنْتَهِبُوها كَما قالَ تَعالى: ﴿وتَوَدُّونَ أنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧] ولَوْ حاوَلُوا ذَلِكَ لَوَقَعُوا بَيْنَ جَماعَتَيْنِ مِنَ العَدُوِّ. وانْتَصَبَ ”أسْفَلَ“ عَلى الظَّرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ وهو في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرٌ عَنِ الرَّكْبِ أيْ والرَّكْبُ قَدْ فاتَكم وكُنْتُمْ تَأْمُلُونَ أنْ تُدْرِكُوهُ فَتَنْتَهِبُوا ما فِيهِ مِنَ المَتاعِ. والغَرَضُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِهَذا الوَقْتِ وبِتِلْكَ الحالَةِ: إحْضارُها في ذِكْرِهِمْ، لِأجْلِ ما يَلْزَمُ ذَلِكَ مِن شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ، ومِن حُسْنِ الظَّنِّ بِوَعْدِهِ والِاعْتِمادِ عَلَيْهِ في أُمُورِهِمْ، فَإنَّهم كانُوا حِينَئِذٍ في أشَدِّ ما يَكُونُ فِيهِ جَيْشٌ تُجاهَ عَدُوِّهِ؛ لِأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّ تِلْكَ الحالَةَ كانَ ظاهِرُها مُلائِمًا لِلْعَدُوِّ، إذْ كانَ العَدُوُّ في شَوْكَةٍ واكْتِمالِ عُدَّةٍ وقَدْ تَمَهَّدَتْ لَهُ أسْبابُ الغَلَبَةِ بِحُسْنِ مَوْقِعِ جَيْشِهِ، إذْ كانَ بِالعُدْوَةِ الَّتِي فِيها الماءُ لِسُقْياهم والَّتِي أرْضُها مُتَوَسِّطَةُ الصَّلابَةِ. فَأمّا جَيْشُ المُسْلِمِينَ فَقَدْ وجَدُوا أنْفُسَهم أمامَ العَدُوِّ في عُدْوَةٍ تَسُوخُ في أرْضِها الأرْجُلُ مِن لِينِ رَمْلِها، مَعَ قِلَّةِ مائِها، وكانَتِ العِيرُ قَدْ فاتَتِ المُسْلِمِينَ وحَلَّتْ وراءَ ظُهُورِ جَيْشِ المُشْرِكِينَ، فَكانَتْ في مَأْمَنٍ مِن أنْ يَنالَها المُسْلِمُونَ، وكانَ المُشْرِكُونَ واثِقِينَ بِمُكْنَةِ الذَّبِّ عَنْ عِيرِهِمْ، فَكانَتْ ظاهِرَةُ هَذِهِ الحالَةِ ظاهِرَةَ خَيْبَةٍ وخَوْفٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وظاهِرَةَ فَوْزٍ وقُوَّةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَكانَ مِن عَجِيبِ عِنايَةِ اللَّهِ بِالمُسْلِمِينَ أنْ قَلَبَ تِلْكَ الحالَةَ رَأْسًا عَلى عَقِبٍ، فَأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَطَرًا تَعَبَّدَتْ بِهِ الأرْضُ لِجَيْشِ المُسْلِمِينَ فَسارُوا فِيها غَيْرَ مَشْفُوقٍ عَلَيْهِمْ، وتَطَهَّرُوا وسَقَوْا، وصارَتْ بِهِ الأرْضُ لِجَيْشِ المُشْرِكِينَ وحْلًا يَثْقُلُ فِيها السَّيْرُ وفاضَتِ المِياهُ عَلَيْهِمْ، وألْقى اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ (p-١٨)تَهْوِينَ أمْرِ المُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَأْخُذُوا حِذْرَهم ولا أعَدُّوا لِلْحَرْبِ عُدَّتَها، وجَعَلُوا مَقامَهم هُنالِكَ مَقامَ لَهْوٍ وطَرَبٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَصْرِ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، ورَأوْا كَيْفَ أنْجَزَ اللَّهُ لَهم ما وعَدَهم مِنَ النَّصْرِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَهُ. فالَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الآيَةِ هم أعْلَمُ السّامِعِينَ بِفائِدَةِ التَّوْقِيتِ الَّذِي في قَوْلِهِ: ﴿إذْ أنْتُمْ بِالعُدْوَةِ الدُّنْيا﴾ الآيَةَ. ولِذَلِكَ تَعَيَّنَ عَلى المُفَسِّرِ وصْفُ الحالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْها الآيَةُ، ولَوْلا ذَلِكَ لَكانَ هَذا التَّقْيِيدُ بِالوَقْتِ قَلِيلَ الجَدْوى. وجُمْلَةُ ﴿ولَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ في المِيعادِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ ”الجَمْعانِ“ وعامِلُ الحالِ فِعْلُ ”التَقى“ أيْ في حالِ لِقاءٍ عَلى غَيْرِ مِيعادٍ، قَدْ جاءَ ألْزَمَ مِمّا لَوْ كانَ عَلى مِيعادٍ، فَإنَّ اللِّقاءَ الَّذِي يَكُونُ مَوْعُودًا قَدْ يَتَأخَّرُ فِيهِ أحَدُ المُتَواعِدَيْنِ عَنْ وقْتِهِ، وهَذا اللِّقاءُ قَدْ جاءَ في إبّانٍ مُتَّحِدٍ وفي مَكانٍ مُتَجاوِرٍ مُتَقابِلٍ. ومَعْنى الِاخْتِلافِ في المِيعادِ: اخْتِلافُ وقْتِهِ بِأنْ يَتَأخَّرَ أحَدُ الفَرِيقَيْنِ عَنِ الوَقْتِ المَحْدُودِ فَلَمْ يَأْتُوا عَلى سَواءٍ. والتَّلازُمُ بَيْنَ شَرْطِ ”لَوْ“ وجَوابِها خَفِيَ هُنا وقَدْ أشْكَلَ عَلى المُفَسِّرِينَ، ومِنهم مَنِ اضْطُرَّ إلى تَقْدِيرِ كَلامٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ عَلِمْتُمْ قِلَّتَكم وكَثْرَتَهم، وفِيهِ أنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلى التَّخَلُّفِ عَنِ الحُضُورِ لا إلى الِاخْتِلافِ. ومِنهم مَن قَدَّرَ: وعَلِمْتُمْ قِلَّتَكم وشَعَرَ المُشْرِكُونَ بِالخَوْفِ مِنكم لِما ألْقى اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، أيْ يَجْعَلُ أحَدَ الفَرِيقَيْنِ يَتَثاقَلُ فَلَمْ تَحْضُرُوا عَلى مِيعادٍ، وهو يُفْضِي إلى ما أفْضى إلَيْهِ القَوْلُ الَّذِي قَبْلَهُ، ومِنهم مَن جَعَلَ ذَلِكَ لِما لا يَخْلُو عَنْهُ النّاسُ مِن عُرُوضِ العَوارِضِ والقَواطِعِ، وهَذا أقْرَبُ. ومَعَ ذَلِكَ لا يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ. فالوَجْهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ ”لَوْ“ هَذِهِ مِن قَبِيلِ ”لَوِ“ الصُّهَيْبِيَّةِ فَإنَّ لَها اسْتِعْمالاتٍ، مِلاكُها: أنْ لا يُقْصَدَ مِن ”لَوْ“ رَبْطُ انْتِفاءِ مَضْمُونِ جَوابِها بِانْتِفاءِ مَضْمُونِ شَرْطِها، أيْ رَبْطُ حُصُولِ نَقِيضِ مَضْمُونِ الجَوابِ بِحُصُولِ نَقِيضِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، بَلْ يُقْصَدُ أنَّ مَضْمُونَ الجَوابِ حاصِلٌ لا مَحالَةَ، سَواءٌ فُرِضَ حُصُولُ مَضْمُونِ شَرْطِها أوْ فُرِضَ انْتِفاؤُهُ، أمّا لِأنَّ مَضْمُونَ الجَوابِ أوْلى بِالحُصُولِ عِنْدَ انْتِفاءِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ سَمِعُوا ما اسْتَجابُوا لَكُمْ﴾ [فاطر: ١٤]، وأمّا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أوْلَوِيَّةِ مَضْمُونِ (p-١٩)الجَوابِ بِالحُصُولِ عِنْدَ انْتِفاءِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨] . ومُحَصِّلُ هَذا أنَّ مَضْمُونَ الجَزاءِ مُسْتَمِرُّ الحُصُولِ في جَمِيعِ الأحْوالِ في فَرْضِ المُتَكَلِّمِ، فَيَأْتِي بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ مُتَضَمِّنَةً الحالَةَ الَّتِي هي عِنْدَ السّامِعِ مَظِنَّةُ أنْ يَحْصُلَ فِيها نَقِيضُ مَضْمُونِ الجَوابِ. ومِن هَذا قَوْلُ طُفَيْلٍ في الثَّناءِ عَلى بَنِي جَعْفَرِ بْنِ كِلابٍ: ؎أبَوْا أنْ يَمَلُّونا ولَوْ أنَّ أُمَّنَـا تُلاقِي الَّذِي لاقَوْهُ مِنّا لَمَلَّتِ أيْ: فَكَيْفَ بِغَيْرِ أُمِّنا. وقَدْ تَقَدَّمَتِ الإشارَةُ إلى هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ أسْمَعَهم لَتَوَلَّوْا وهم مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣] في هَذِهِ السُّورَةِ، وكُنّا أحَلْنا عَلَيْهِ وعَلى ما في هَذِهِ الآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ أنَّنا نَزَّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ﴾ [الأنعام: ١١١] الآيَةَ في سُورَةِ الأنْعامِ. والمَعْنى: لَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ في المِيعادِ، أيْ في وقْتِ ما تَواعَدْتُمْ عَلَيْهِ لِأنَّ غالِبَ أحْوالِ المُتَواعِدِينَ أنْ لا يَسْتَوِيَ وفاؤُهُما بِما تَواعَدُوا عَلَيْهِ في وقْتِ الوَفاءِ بِهِ، أيْ في وقْتٍ واحِدٍ؛ لِأنَّ التَّوْقِيتَ كانَ في تِلْكَ الأزْمانِ تَقْرِيبًا يُقَدِّرُونَهُ بِأجْزاءِ النَّهارِ كالضُّحى والعَصْرِ والغُرُوبِ، لا يَنْضَبِطُ بِالدَّرَجِ والدَّقائِقِ الفَلَكِيَّةِ، والمَعْنى: فَبِالأحْرى وأنْتُمْ لَمْ تَتَواعَدُوا وقَدْ أتَيْتُمْ سَواءً في اتِّحادِ وقْتِ حُلُولِكم في العُدْوَتَيْنِ فاعْلَمُوا أنَّ ذَلِكَ تَيْسِيرٌ بِقَدَرِ اللَّهِ لِأنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أنَّ نَصْرَكم مِن عِنْدِهِ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ: ﴿وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ [الأنفال: ١٧] وهَذا غَيْرُ ما يُقالُ، في تَقارُبِ حُصُولِ حالٍ لِأُناسٍ: كَأنَّهم كانُوا عَلى مِيعادٍ كَما قالَ الأسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ يَرْثِي هَلاكَ أحْلافِهِ وأنْصارِهِ: ؎جَرَتِ الرِّياحُ عَلى مَحَلِّ دِيارِهِمْ ∗∗∗ فَكَأنَّهم كانُوا عَلَـى مِـيعَـادِ فَإنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لِلْحُصُولِ المُتَعاقِبِ. وضَمِيرُ اخْتَلَفْتُمْ عَلى الوُجُوهِ كُلِّها شامِلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ: المُخاطَبِينَ والغائِبِينَ، عَلى تَغْلِيبِ المُخاطَبِينَ، كَما هو الشَّأْنُ في الضَّمائِرِ مِثْلِهِ. (p-٢٠)وقَدْ ظَهَرَ مَوْقِعُ الِاسْتِدْراكِ في قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أمْرًا كانَ مَفْعُولًا﴾ إذِ التَّقْدِيرُ: ولَكِنْ لَمْ تَتَواعَدُوا وجِئْتُمْ عَلى غَيْرِ اتِّعادٍ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أيْ لِيُحَقِّقَ ويُنْجِزَ ما أرادَهُ مِن نَصْرِكم عَلى المُشْرِكِينَ. ولَمّا كانَ تَعْلِيلُ الِاسْتِدْراكِ المُفادِ بِـ ”لَكِنْ“ قَدْ وقَعَ بِفِعْلٍ مُسْنَدٍ إلى اللَّهِ كانَ مُفِيدًا أنَّ مَجِيئَهم إلى العُدْوَتَيْنِ عَلى غَيْرِ تَواعُدٍ كانَ بِتَقْدِيرٍ مِنَ اللَّهِ عِنايَةً بِالمُسْلِمِينَ. ومَعْنى ”أمْرًا“ هُنا الشَّيْءُ العَظِيمُ، فَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أوْ يُجْعَلُ بِمَعْنى الشَّأْنِ وهم لا يُطْلِقُونَ الأمْرَ بِهَذا المَعْنى إلّا عَلى شَيْءٍ مُهِمٍّ، ولَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ أنَّهُ ما سُمِّيَ ”أمْرًا“ إلّا بِاعْتِبارِ أنَّهُ مِمّا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ أوْ بِعَمَلِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكانَ أمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٢١] وقَوْلِهِ: ﴿وكانَ أمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب: ٣٨] و”كانَ“ تَدُلُّ عَلى تَحَقُّقِ ثُبُوتِ مَعْنى خَبَرِها لِاسْمِها مِنَ الماضِي مِثْلَ ﴿وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧] أيْ ثَبَتَ لَهُ اسْتِحْقاقُ الحَقِّيَّةِ عَلَيْنا مِن قَدِيمِ الزَّمانِ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وكانَ أمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: ٢١] . فَمَعْنى ﴿كانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: ٤٤] أنَّهُ ثَبَتَ لَهُ في عِلْمِ اللَّهِ أنَّهُ يُفْعَلُ. فاشْتُقَّ لَهُ صِيغَةُ مَفْعُولٍ مِن ”فَعَلَ“ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ حِينَ قُدِّرَتْ مَفْعُولِيَّتُهُ فَقَدْ صارَ كَأنَّهُ فُعِلَ، فَوُصِفَ لِذَلِكَ بِاسْمِ المَفْعُولِ الَّذِي شَأْنُهُ أنْ يُطْلَقَ عَلى مَنِ اتَّصَفَ بِتَسَلُّطِ الفِعْلِ في الحالِ لا في الِاسْتِقْبالِ. فَحاصِلُ المَعْنى: لِيُنْجِزَ اللَّهُ ويُوقِعَ حَدَثًا عَظِيمًا مُتَّصِفًا مُنْذُ القِدَمِ بِأنَّهُ مُحَقَّقُ الوُقُوعِ عِنْدَ إبّانِهِ، أيْ حَقِيقًا بِأنْ يُفْعَلَ حَتّى كَأنَّهُ قَدْ فُعِلَ لِأنَّهُ لا يَمْنَعُهُ ما يَحُفُّ بِهِ مِنَ المَوانِعِ المُعْتادَةِ. وجُمْلَةُ ﴿لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ في مَوْضِعِ بَدَلِ الِاشْتِمالِ مِن جُمْلَةِ ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أمْرًا كانَ مَفْعُولًا﴾ لِأنَّ الأمْرَ هو نَصْرُ المُسْلِمِينَ وقَهْرُ المُشْرِكِينَ وذَلِكَ قَدِ اشْتَمَلَ عَلى إهْلاكِ المَهْزُومِينَ وإحْياءِ المَنصُورِينَ وحَفَّهُ مِنَ الأحْوالِ الدّالَّةِ عَلى عِنايَةِ اللَّهِ بِالمُسْلِمِينَ وإهانَتِهِ المُشْرِكِينَ ما فِيهِ بَيِّنَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ تَقْطَعُ عُذْرَ الهالِكِينَ، وتَقْتَضِي شُكْرَ الأحْياءِ. ودُخُولُ لامِ التَّعْلِيلِ عَلى فِعْلِ ”يَهْلِكَ“ تَأْكِيدٌ لِلّامِ الدّاخِلَةِ عَلى لِيَقْضِيَ في الجُمْلَةِ المُبْدَلِ مِنها. ولَوْ لَمْ تَدْخُلِ اللّامُ لَقِيلَ: ”يَهْلِكُ“ مَرْفُوعًا. (p-٢١)والهَلاكُ: المَوْتُ والِاضْمِحْلالُ، ولِذَلِكَ قُوبِلَ بِالحَياةِ. والهَلاكُ والحَياةُ مُسْتَعارانِ لِمَعْنى ذَهابِ الشَّوْكَةِ، ولِمَعْنى نُهُوضِ الأُمَّةِ وقُوَّتِها لِأنَّ حَقِيقَةَ الهَلاكِ المَوْتُ، وهو أشَدُّ الضُّرِّ فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِالهَلاكِ كُلُّ ما كانَ ضُرًّا شَدِيدًا. قالَ تَعالى: ﴿يُهْلِكُونَ أنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٢] وبِضِدِّهِ الحَياةُ هي أنْفَعُ شَيْءٍ في طَبْعِ الإنْسانِ فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِها ما كانَ مَرْغُوبًا. قالَ تَعالى: ﴿لِيُنْذِرَ مَن كانَ حَيًّا﴾ [يس: ٧٠] وقَدْ جَمَعَ التَّشْبِيهَيْنِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢] . فَإنَّ الكُفّارَ كانُوا في عِزَّةٍ ومَنَعَةٍ، وكانَ المُسْلِمُونَ في قِلَّةٍ، فَلَمّا قَضى اللَّهُ بِالنَّصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أخْفَقَ أمْرُ المُشْرِكِينَ ووَهَنُوا، وصارَ أمْرُ المُسْلِمِينَ إلى جِدَّةٍ ونُهُوضٍ، وكانَ كُلُّ ذَلِكَ، عَنْ بَيِّنَةٍ، أيْ عَنْ حُجَّةٍ ظاهِرَةٍ تَدُلُّ عَلى تَأْيِيدِ اللَّهِ قَوْمًا وخَذْلِهِ آخَرِينَ بِدُونِ رَيْبٍ. ومِنَ البَعِيدِ حَمْلُ ”يَهْلِكَ ويَحْيى“ عَلى الحَقِيقَةِ لِأنَّهُ وإنْ تَحَمَّلَهُ المَعْنى في قَوْلِهِ: ﴿لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ﴾ فَلا يَتَحَمَّلُهُ في قَوْلِهِ: ﴿ويَحْيا مَن حَيِيَ﴾ لِأنَّ حَياةَ الأحْياءِ ثابِتَةٌ لَهم مِن قَبْلِ يَوْمِ بَدْرٍ. ودَلَّ مَعْنى المُجاوَزَةِ الَّذِي في ”عَنْ“ عَلى أنَّ المَعْنى، أنْ يَكُونَ الهَلاكُ والحَياةُ صادِرَيْنِ عَنْ بَيِّنَةٍ وبارِزَيْنِ مِنها. وقَرَأ نافِعٌ، والبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، ويَعْقُوبُ، وخَلَفٌ: (حَيِيَ) بِإظْهارِ الياءَيْنِ، وقَرَأهُ البَقِيَّةُ: ”حَيَّ“ بِإدْغامِ إحْدى الياءَيْنِ في الأُخْرى عَلى قِياسِ الإدْغامِ وهُما وجْهانِ فَصِيحانِ. و”عَنْ“ لِلْمُجاوَزَةِ المَجازِيَّةِ، وهي بِمَعْنى ”بَعْدَ“ أيْ: بَعْدَ بَيِّنَةٍ يَتَبَيَّنُ بِها سَبَبُ الأمْرَيْنِ: هَلاكِ مَن هَلَكَ، وحَياةِ مَن حَيِيَ. وقَوْلُهُ: ﴿وإنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ يُشِيرُ إلى أنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دُعاءَ المُسْلِمِينَ طَلَبَ النَّصْرِ، وسَمِيعٌ ما جَرى بَيْنَهم مِنَ الحِوارِ في شَأْنِ الخُرُوجِ إلى بَدْرٍ ومِن مَوَدَّتِهِمْ أنْ تَكُونَ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ هي إحْدى الطّائِفَتَيْنِ الَّتِي يُلاقُونَها، وغَيْرَ ذَلِكَ، وعَلِيمٌ بِما يَجُولُ في خَواطِرِهِمْ مِن غَيْرِ الأُمُورِ المَسْمُوعَةِ وبِما يَصْلُحُ لَهم ويَبْنِي عَلَيْهِ مَجْدَ مُسْتَقْبَلِهِمْ.


ركن الترجمة

(That day) when you were at one end of the valley, (the unbelievers) at the other, and the caravan below you (on the lowland by the coast), you would surely have declined to fight if (the Makkans) had offered you battle. (But the battle did take place) that God may end the matter which had been accomplished, so that he who had to die may perish after a clear demonstration, and he who had to live may survive in the light of positive proof, for God hears all and knows everything.

Vous étiez sur le versant le plus proche, et eux (les ennemis) sur le versant le plus éloigné, tandis que la caravane était plus bas que vous. Si vous vous étiez donné rendez-vous, vous l'auriez manqué (effrayés par le nombre de l'ennemi). Mais il fallait qu'Allah accomplît un ordre qui devait être exécuté, pour que, sur preuve, pérît celui qui (devait) périr, et vécût, sur preuve, celui qui (devait) vivre. Et certes Allah est Audient et Omniscient.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :