ركن التفسير
7 - (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) الخليقة
ثم أخبر تعالى عن الأبرار الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بأبدانهم بأنهم خير البرية وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين من البرية على الملائكة لقوله "أولئك هم خير البرية".
(p-٤٨٥)( ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ هم خَيْرُ البَرِيئَةِ﴾ ﴿جَزَآؤُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ﴾ [البينة: ٨] . قُوبِلَ حالُ الكَفَرَةِ مِن أهْلِ الكِتابِ وحالُ المُشْرِكِينَ بِحالِ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ أنْ أُشِيرَ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥]، اسْتِيعابًا لِأحْوالِ الفِرَقِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وجَرْيًا عَلى عادَةِ القُرْآنِ في تَعْقِيبِ نِذارَةِ المُنْذَرِينَ بِبِشارَةِ المُطْمَئِنِّينَ، وما تَرَتَّبَ عَلى ذَلِكَ مِنَ الثَّناءِ عَلَيْهِمْ، وقَدَّمَ الثَّناءَ عَلَيْهِمْ عَلى بِشارَتِهِمْ عَلى عَكْسِ نَظْمِ الكَلامِ المُتَقَدِّمِ في ضِدِّهِمْ؛ لِيَكُونَ ذِكْرُ وعْدِهِمْ كالشُّكْرِ لَهم عَلى إيمانِهِمْ وأعْمالِهِمْ، فَإنَّ اللَّهَ شَكُورٌ. والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ ناشِئٌ عَنْ تَكَرُّرِ ذِكْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ، فَإنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ في نُفُوسِ الَّذِينَ آمَنُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ تَساؤُلًا عَنْ حالِهِمْ، لَعَلَّ تَأخُّرَ إيمانِهِمْ إلى ما بَعْدَ نُزُولِ الآياتِ في التَّنْدِيدِ عَلَيْهِمْ يَجْعَلُهم في انْحِطاطِ دَرَجَةٍ، فَجاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُبَيِّنَةً أنَّ مَن آمَنَ مِنهم هو مَعْدُودٌ في خَيْرِ البَرِيئَةِ. والقَوْلُ في اسْمِ الإشارَةِ، وضَمِيرِ الفَصْلِ والقَصْرِ وهَمْزَةِ البَرِيئَةِ كالقَوْلِ في نَظِيرِهِ المُتَقَدِّمِ. واسْمُ الإشارَةِ والجُمْلَةُ المُخْبَرُ بِها عَنْهُ جَمِيعُها خَبَرٌ عَنِ اسْمِ (إنَّ) . وجُمْلَةُ ﴿جَزاؤُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتُ عَدْنٍ﴾ [البينة: ٨] إلى آخِرِها، مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ (﴿أُولَئِكَ هم خَيْرُ البَرِيئَةِ﴾) . وعِنْدَ رَبِّهِمْ ظَرْفٌ وقَعَ اعْتِراضًا بَيْنَ (جَزاؤُهم)، وبَيْنَ جَنّاتِ عَدْنٍ؛ لِلتَّنْوِيهِ بِعِظَمِ الجَزاءِ بِأنَّهُ مُدَّخَرٌ لَهم عِنْدَ رَبِّهِمْ تَكْرُمَةً لَهم لِما في (عِنْدَ) مِنَ الإيماءِ إلى الحُظْوَةِ والعِنايَةِ، وما في لَفْظِ رَبِّهِمْ مِن الإيماءِ إلى إجْزالِ الجَزاءِ بِما يُناسِبُ عِظَمَ المُضافِ إلَيْهِ (عِنْدَ)، وما يُناسِبُ شَأْنَ مَن يَرُبُّ أنْ يَبْلُغَ بِمَرْبُوبِهِ عَظِيمَ الإحْسانِ. وإضافَةُ: (جَنّاتُ) إلى (عَدْنٍ) لِإفادَةِ أنَّها مَسْكَنُهم؛ لِأنَّ العَدْنَ الإقامَةُ، أيْ: لَيْسَ جَزاؤُهم تَنَزُّهًا في الجَنّاتِ، بَلْ أقْوى مِن ذَلِكَ بِالإقامَةِ فِيها. (p-٤٨٦)وقَوْلُهُ: ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا﴾ [البينة: ٨] بِشارَةٌ بِأنَّها مَسْكَنُهم الخالِدُ. ووَصْفُ الجَنّاتِ بِـ ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ [البينة: ٨]؛ لِبَيانِ مُنْتَهى حُسْنِها. وجَرْيُ النَّهْرِ مُسْتَعارٌ لِانْتِقالِ السَّيْلِ تَشْبِيهًا لِسُرْعَةِ انْتِقالِ الماءِ بِسُرْعَةِ المَشْيِ. والنَّهْرُ: أُخْدُودٌ عَظِيمٌ في الأرْضِ يَسِيلُ فِيهِ الماءُ فَلا يُطْلَقُ إلّا عَلى مَجْمُوعِ الأُخْدُودِ ومائِهِ. وإسْنادُ الجَرْيِ إلى الأنْهارِ تَوَسُّعٌ في الكَلامِ؛ لِأنَّ الَّذِي يَجْرِي هو ماؤُها وهو المُعْتَبَرُ في ماهِيَّةِ النَّهْرِ. وجُعِلَ جَزاءُ الجَماعَةِ جَمْعَ الجَنّاتِ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى وجْهِ التَّوْزِيعِ، أيْ: لِكُلِّ واحِدٍ جَنَّةٌ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَجْعَلُونَ أصابِعَهم في آذانِهِمْ﴾ [البقرة: ١٩] وقَوْلِكَ: رَكِبَ القَوْمُ دَوابَّهم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِكُلِّ أحَدٍ جَنّاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ والفَضْلُ لا يَنْحَسِرُ. قالَ تَعالى: ﴿ولِمَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ﴾ [الرحمن: ٤٦] . وجُمْلَةُ ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [البينة: ٨] حالٌ مِن ضَمِيرِ (خالِدِينَ)، أيْ: خالِدِينَ خُلُودًا مُقارِنًا لِرِضى اللَّهِ عَنْهم، فَهم في مُدَّةِ خُلُودِهِمْ فِيها مَحْفُوفُونَ بِآثارِ رِضى اللَّهِ عَنْهم، وذَلِكَ أعْظَمُ مَراتِبِ الكَرامَةِ. قالَ تَعالى: ﴿ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢] ورِضى اللَّهِ تَعَلُّقُ إحْسانِهِ وإكْرامِهِ لِعَبْدِهِ. وأمّا الرِّضى في قَوْلِهِ: ﴿ورَضُوا عَنْهُ﴾ [البينة: ٨] فَهو كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ نالَهم مِن إحْسانِ اللَّهِ ما لا مَطْلَبَ لَهم فَوْقَهُ، كَقَوْلِ أبِي بَكْرٍ في حَدِيثِ الغارِ: ”«فَشَرِبَ حَتّى رَضِيتُ» “ . وقَوْلُ مَخْرَمَةَ حِينَ أعْطاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَباءً ”«رَضِيَ مَخْرَمَةُ» “ . وزادَهُ حُسْنَ وقْعٍ هُنا ما فِيهِ مِنَ المُشاكَلَةِ.